تُعد قضية حجب المواقع الإلكترونية في مصر من أبرز مظاهر التقييد المفروض على الفضاء الرقمي، خاصة في ظل تصاعد استخدام أدوات تقنية وتشريعية تؤدي إلى تقييد الوصول إلى المعلومات. وقد شهدت السنوات الأخيرة توسّعًا ملحوظًا في سياسات الحجب، شمل مواقع إخبارية مستقلة، ومنصات رقمية، ومصادر بديلة للمعلومة، ومواقع تجاوز الحجب، غالبًا دون إعلان رسمي أو تسبيب قانوني واضح. هذا التوجّه يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى توافق هذه الممارسات مع الحق في حرية التعبير وتداول المعلومات، الذي تكفله الدساتير والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
تنبع أهمية هذه الدراسة من الحاجة إلى فهم الأثر الذي تُحدثه التغطية الإعلامية لقضية الحجب، سواء في الإعلام الرسمي أو المستقل، على تشكيل وعي الجمهور وتوجيه الرأي العام. إذ لا تتوقف خطورة الحجب على الفعل التقني أو القانوني في حد ذاته، بل تمتد إلى كيفية تقديمه وتبريره أو نقده في الخطاب الإعلامي، وهو ما يسهم بدوره في شرعنته أو مقاومته على المستوى المجتمعي.
بناءً على ذلك، تهدف هذه الورقة إلى مقارنة كيفية تناول الإعلام الرسمي والمستقل لقضية حجب المواقع في مصر، من خلال تحليل نماذج مختارة من التغطية الإخبارية في كلٍّ من الطرفين. وتسعى الورقة إلى رصد الاختلاف في اللغة، والرسائل، والخطاب، وطبيعة التأثير على الجمهور، بما يُمكّن من تقديم توصيات تدعم سياسات إعلامية أكثر اتزانًا، تراعي الحقوق الأساسية للمواطنين.
تُعد حرية الرأي والتعبير من الحقوق الأساسية التي نصّت عليها المواثيق الدولية، وعلى رأسها المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تضمن "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود". كما أكد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على هذا الحق، مع الإشارة إلى إمكانية فرض قيود محددة عليه "عند الضرورة" لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
أما في السياق المصري، فقد نص دستور 2014 في المادة 65 على أن "حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر". كما تنص المادة 71 على حظر فرض الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام إلا في زمن الحرب أو التعبئة العامة، ومع ذلك فإن الواقع يشهد مفارقة بين النصوص القانونية والممارسات الفعلية.
شهدت مصر خلال السنوات الأخيرة توسعًا ملحوظًا في استخدام الإطار التشريعي كأداة لتقييد الوصول إلى المعلومات، والتحكم في الفضاء الرقمي، عبر سنّ مجموعة من القوانين التي منحت السلطات صلاحيات واسعة لحجب المواقع الإلكترونية، وملاحقة المحتوى الرقمي. من أبرز هذه القوانين:
1. قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015
يتضمن قانون مكافحة الإرهاب نصوصًا تتصل بالأنشطة الرقمية، لا سيما ما يتعلق باستخدام الإنترنت في سياق الترويج لأعمال إرهابية أو التأثير على الأجهزة الأمنية. وتعد المادة 29 من أبرز المواد ذات الصلة، حيث تنص على:
"يُعاقب بالسجن المشدد مدة لا تقل عن خمس سنين، كل من أنشأ أو استخدم موقعاً على شبكات الاتصالات أو شبكة المعلومات الدولية أو غيرها، بغرض الترويج للأفكار أو المعتقدات الداعية إلى ارتكاب أعمال إرهابية، أو لبث ما يهدف إلى تضليل السلطات الأمنية، أو التأثير على سير العدالة في شأن أية جريمة إرهابية، أو لتبادل الرسائل وإصدار التكليفات بين الجماعات الإرهابية أو المنتمين إليها، أو المعلومات المتعلقة بأعمال أو تحركات الإرهابيين أو الجماعات الإرهابية في الداخل والخارج. ويُعاقب بالسجن المشدد مدة لا تقل عن عشر سنين، كل من دخل بغير حق أو بطريقة غير مشروعة موقعاً إلكترونياً تابعاً لأية جهة حكومية، بقصد الحصول على البيانات أو المعلومات الموجودة عليها أو الاطلاع عليها أو تغييرها أو محوها أو إتلافها أو تزوير محتواها الموجود بها، وذلك كله بغرض ارتكاب جريمة من الجرائم المشار إليها بالفقرة الأولى من هذه المادة أو الإعداد لها."
ورغم أن هذه المادة لا تنص صراحة على حجب المواقع الإلكترونية، فإنها تمنح السلطات مبررًا قانونيًا لمعاقبة من يستخدم المنصات الرقمية في هذا الإطار. وبذلك، يُمكن القول إن قانون مكافحة الإرهاب لا يمثل الأداة التشريعية الأساسية للحجب المباشر، لكنه يوفر غطاءً قانونيًا داعمًا ضمن منظومة تشريعية أوسع، تُسهم في تضييق المجال الرقمي والإعلامي في مصر.
2. قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018
يُعد هذا القانون أحد الركائز الأساسية لتنظيم المجال الإعلامي في مصر. وقد منح المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام صلاحيات واسعة لحجب المواقع الإلكترونية، بما في ذلك المنصات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي التي يتجاوز عدد متابعيها 5 آلاف متابع، في حال "نشر أو بث أخبار كاذبة أو ما يدعو إلى مخالفة القانون أو يحض على العنف أو الكراهية".
وتنص المادة 19 من القانون على:
"يحظر على الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية أو الموقع الإلكتروني نشر أو بث أخبار كاذبة، أو ما يدعو أو يحرض على مخالفة القانون أو إلى العنف أو الكراهية، أو ينطوي على تمييز بين المواطنين، أو يدعو إلى العنصرية أو يتضمن طعنا في أعراض الأفراد، أو سبا أو قذفا لهم، أو امتهانا للأديان السماوية أو للعقائد الدينية.
ويلتزم بأحكام الفقرة السابقة كل موقع إلكتروني شخصي أو مدونة إلكترونية شخصية أو حساب إلكتروني شخصي، يبلغ عدد متابعيه خمسة آلاف متابع أو أكثر.
ومع عدم الإخلال بالمسئولية القانونية المترتبة على مخالفة أحكام هذه المادة، يجب على المجلس الأعلى اتخاذ الإجراء المناسب حيال المخالفة، وله في سبيل ذلك وقف أو حجب الموقع أو المدونة أو الحساب المشار إليه بقرار منه.
ولذوي الشأن الطعن على القرار الصادر بذلك أمام محكمة القضاء الإداري."
ورغم ما يبدو من محاولة لتنظيم المجال الإعلامي، إلا أن صياغة المواد القانونية جاءت فضفاضة، وهو ما يفتح الباب لتفسيرات أمنية تُفضي إلى حجب المحتوى المعارض أو النقدي تحت ذرائع عامة.
3. قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018
إن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات هو الأداة التشريعية المباشرة والأكثر تأثيرًا في شرعنة حجب المواقع الإلكترونية. فقد أتاح للنيابة العامة والجهات الأمنية صلاحية حجب أو حظر الوصول إلى أي موقع أو حساب إذا اعتُبر "يشكل تهديدًا للأمن القومي أو يعرض أمن البلاد أو اقتصادها القومي للخطر"، وذلك حسبما جاء في المادة 7 من القانون والتي تنص على:
"لجهة التحقيق المختصة متى قامت أدلة على قيام موقع يبث من داخل الدولة أو خارجها، بوضع أى عبارات أو أرقام أو صور أو أفلام أو أى مواد دعائية أو ما فى حكمها، بما يعد جريمة من الجرائم المنصوص عليها فى هذا القانون، ويشكل تهديداً للأمن القومى أو يعرض أمن البلاد أو اقتصادها القومى للخطر، أن تأمر بحجب الموقع أو المواقع محل البث، كلما أمكن تحقيق ذلك فنياً .
وعلى جهة التحقيق عرض أمر الحجب على المحكمة المختصة، منعقدة فى غرفة المشورة خلال أربع وعشرين ساعة مشفوعاً بمذكرة برأيها. وتصدر المحكمة قرارها فى الأمر مسبباً إما بالقبول أو بالرفض، فى مدة لا تجاوز اثنتين وسبعين ساعة من وقت عرضه عليها.
ويجوز فى حالة الاستعجال لوجود خطر حال، أو ضرر وشيك الوقوع، أن تقوم جهات التحري والضبط المختصة بإبلاغ الجهاز، ليقوم بإخطار مقدم الخدمة على الفور بالحجب المؤقت للموقع أو المحتوى أو المواقع أو الروابط المذكورة فى الفقرة الأولى من هذه المادة وفقاً لأحكامها، ويلتزم مقدم الخدمة بتنفيذ مضمون الإخطار فور وروده إليه .
وعلى جهة التحري والضبط التي قامت بالإبلاغ أن تحرر محضراً تثبت فيه ما تم من إجراءات وفق أحكام الفقرة السابقة يعرض على جهات التحقيق خلال ثمان وأربعين ساعة من تاريخ الإبلاغ الذى وجهته للجهاز، وتتبع فى شأن هذا المحضر ذات الإجراءات المبينة بالفقرة الثانية من هذه المادة. وتصدر المحكمة المختصة قرارها فى هذه الحالة إما بتأييد ما تم من إجراءات حجب، أو يوقفها.
فإذا لم يعرض المحضر المشار إليه فى الفقرة السابقة فى الموعد المحدد، يعد الحجب الذي تم كأن لم يكن.
ولمحكمة الموضوع أثناء نظر الدعوى، أو بناءً على طلب جهة التحقيق أو الجهاز أو ذوى الشأن أن تأمر بإنهاء القرار الصادر بالحجب، أو تعديل نطاقه.
وفى جميع الأحوال، يسقط القرار الصادر بالحجب بصدور أمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية، أو بصدور حكم نهائى فيها بالبراءة."
لا يُلزم القانون بالرجوع إلى القضاء قبل تنفيذ قرار الحجب، ما يؤدي فعليًا إلى تقليص دور الرقابة القضائية، ويفتح الباب أمام استخدام الحجب كأداة رقابية فورية، دون مساءلة.
يُعد الإعلام من أبرز الأدوات التي تؤثر في تشكيل الرأي العام وتوجيه اهتمام الجمهور نحو قضايا معينة، من خلال انتقاء الموضوعات وطريقة تناولها والمصادر المعتمدة في التغطية. وفي مصر، يظهر تباين واضح بين أدوار الإعلام الرسمي والإعلام المستقل، خاصة فيما يتعلق بالقضايا المرتبطة بالحريات الرقمية مثل حجب المواقع الإلكترونية.
يعتمد الإعلام الرسمي – سواء المملوك للدولة أو المقرب من مؤسساتها – في تغطيته على الروايات الحكومية، خاصة في القضايا ذات الطابع الأمني أو السيادي. غالبًا ما يُبرز هذا النوع من الإعلام مبررات الحجب في إطار الحفاظ على الأمن القومي أو مكافحة الشائعات أو حماية المواطنين من المعلومات المضللة.
ويتسم الخطاب الإعلامي الرسمي بلغة تميل إلى الطابع المؤسسي، مع الاعتماد في الغالب على مصادر رسمية، وهو ما يعكس توجهًا نحو تعزيز الثقة في السياسات العامة، وتأكيد مشروعية الإجراءات الحكومية المتخذة في هذا السياق.
أما الإعلام المستقل، الذي يشمل منصات رقمية وصحفًا ومواقع غير تابعة للدولة، فيسعى إلى تقديم زاوية مختلفة في التغطية، من خلال التركيز على الجوانب المرتبطة بحرية التعبير وحق الجمهور في المعرفة. وغالبًا ما يعرض هذا الإعلام آراء قانونيين وحقوقيين، ويناقش تأثير حجب المواقع على التعددية الإعلامية والشفافية.
ويتسم خطابه بلغة تحليلية أو نقدية، ويستند إلى المعايير الدستورية والدولية الخاصة بحرية الإعلام، في محاولة لفهم أوسع لأبعاد القضية.
تعتمد هذه الورقة على منهجية تحليل نوعي مقارن، تهدف إلى فهم الفروقات في تغطية قضية حجب المواقع الإلكترونية في مصر من قبل الإعلام الرسمي والإعلام المستقل. لا تسعى الورقة إلى تقديم تحليل كمي شامل أو إلى التعميم الإحصائي، بل ترتكز على دراسة نماذج مختارة من التغطية الإعلامية كأمثلة تمثيلية لخطاب كل من الطرفين.
تم اختيار أربع منصات إعلامية رقمية تمثّل توجهين مختلفين داخل المشهد الإعلامي المصري:
تم اختيار هذه العينة وفق المعايير التالية:
اعتمد التحليل على عدد من المؤشرات التي تتيح مقارنة التغطيات الإعلامية، وتشمل:
تم استخدام أداتين رئيسيتين في تحليل المادة الإعلامية:
تُستخدم النتائج الناتجة عن هذا التحليل في الفصول التالية لتفسير الاختلاف في تغطية قضية حجب المواقع بين الإعلام الرسمي والمستقل، وتأثير ذلك على الرأي العام والبيئة الإعلامية والسياسية في مصر.
في تناول الإعلام الرسمي لقضية حجب المواقع الإلكترونية في مصر، تُظهر التغطية تركيزًا واضحًا على البُعد التنظيمي والأمني، مع إبراز مبررات الحجب باعتبارها استجابة مشروعة لحماية المجتمع والدولة. وقد شملت العينة المُحلّلة مواد منشورة على مواقع بوابة الأهرام ومصراوي، وهما من أبرز المنصات الإخبارية ذات الانتشار الواسع في مصر، واللتين تعكسان توجهات الإعلام القومي أو القريب من الخطاب الرسمي.
في بوابة الأهرام، جاءت التغطية الأخيرة لقرارات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بشأن حجب المنصات غير المرخصة ضمن إطار تنظيمي واضح. فالمادة المنشورة في يونيو 2024 تنقل تصريحات مباشرة من رئيس المجلس، وتشير إلى اعتزام الدولة حجب جميع المنصات التي لا تحصل على التراخيص اللازمة خلال ثلاثة أشهر، بالتنسيق مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات.
تركز التغطية على:
تُستخدم في المادة لغة رسمية ومحايدة نسبيًا، تُضفي على القرار طابعًا تقنيًا وإداريًا، وتغيب فيها أي إشارات لجدل حقوقي أو تأثير القرار على تعددية المحتوى أو حرية التعبير.
أما في مصراوي، فقد جاءت التغطية في إطار متابعة قرارات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وركّزت على حجب الصفحات والمنصات غير المرخصة كجزء من سياسة تنظيم المجال الرقمي. ففي تقرير منشور بتاريخ 4 مايو 2025، نقل الموقع عن المجلس قراره حجب عدد من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تُروّج لمنتجات طبية دون تصريح، واعتبر المجلس أن هذه الخطوة تأتي لحماية الصحة العامة ومنع تداول معلومات مضللة تمس سلامة المواطنين.
وفي تقرير لاحق نُشر في 11 يونيو 2024، أعلن المجلس رسميًا عن بدء تنفيذ خطة لحجب جميع المنصات الرقمية التي لا تمتلك تراخيص قانونية خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، بالتعاون مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات. وقد تم تقديم هذا الإجراء باعتباره جزءًا من جهود الدولة لتنظيم الإعلام الإلكتروني وضبط الأداء المهني للمؤسسات العاملة في الفضاء الرقمي.
تعكس هذه التغطية توجهًا مشابهًا لما ورد في الإعلام الرسمي عمومًا، من حيث الاعتماد على لغة مؤسسية رسمية، وتقديم قرارات الحجب باعتبارها أدوات تنظيمية تستهدف الجهات غير الملتزمة بالقانون، دون التطرّق إلى الجوانب المتعلقة بحرية التعبير أو تأثير تلك السياسات على الإعلام المستقل أو التعددية الإعلامية.
حماية الأمن القومي: يظهر ذلك من خلال التلميح إلى أن بعض المواقع تمثل تهديدًا للاستقرار، إما عبر نشر الشائعات أو المعلومات غير الدقيقة.
مكافحة المحتوى غير المنضبط: يتضح من ربط بعض قرارات الحجب بممارسات ضارة مثل بيع منتجات صحية أو نشر أخبار بلا مصدر.
فرض النظام وتنظيم المجال الإعلامي: تُقدَّم قرارات الحجب على أنها جزء من عملية "تنظيف" المشهد الإعلامي وحماية المواطنين من التضليل.
تتميّز التغطية الرسمية باستخدام لغة:
يُلاحظ أن الإعلام الرسمي يتعامل مع حجب المواقع بوصفه قضية إجرائية إدارية أو أخلاقية، وليس موضوعًا سياسيًا أو حقوقيًا يتطلب نقاشًا عامًا. كما أن غياب تعددية الآراء في التغطية يُضعف إمكانية تشكّل فهم شامل للقضية لدى الجمهور.
رابعًا: التغطية الإعلامية المستقلة
في تغطية الإعلام المستقل لقضية حجب المواقع الإلكترونية في مصر، يُلاحظ تركيز واضح على الأبعاد الحقوقية والتأثيرات السلبية على حرية التعبير والعمل الصحفي. وتُظهر التغطية اهتمامًا بتوثيق حالات الحجب، وتحليل آثارها، وتقديم روايات بديلة للرواية الرسمية. وقد اعتمدت الورقة على مادّتين منشورتين على موقعي المنصة ومدى مصر.
في تقرير نُشر على موقع المنصة بتاريخ 3 نوفمبر 2024، تم توثيق حالة حجب موقع القاهرة 24 الإخباري للمرة الثانية، وذلك عبر تتبع تقني لطريقة الحجب المستخدمة. يوضح التقرير أن الموقع تعرّض للحجب عبر شبكات مزوّدي الخدمة في مصر، باستخدام تقنية DNS tampering، وهي آلية تقنية تقوم على توجيه المستخدم إلى صفحة خطأ بدلًا من الصفحة الأصلية دون إعلامه بسبب المنع أو الحظر.
ما يلفت الانتباه في التغطية هو تأكيدها على غياب أي إعلان رسمي من الجهات الحكومية أو التنظيمية بشأن قرار الحجب، سواء من المجلس الأعلى للإعلام أو الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات. ويصف التقرير هذا الحجب بأنه تم بطريقة "غير معلنة وغير شفافة"، ما يفتح المجال لطرح تساؤلات جوهرية تتعلق بـ:
وتستخدم المنصة في هذا التقرير أسلوبًا نقديًا مبنيًا على الملاحظة التقنية، والتحليل السياسي الضمني، لتصوير الحجب على أنه ممارسة تمس المجال العام، وتُنفذ بمعزل عن معايير الشفافية أو خضوع السلطات للمساءلة.
أما تغطية مدى مصر، فقد جاءت في تقرير تحليلي موسّع نُشر في 2022، تناول الاتهامات الموجهة لشركة التكنولوجيا الأميركية Sandvine بتقديم أدوات تقنية تُستخدم في عمليات حجب المواقع داخل مصر. يوضح التقرير أن مدى مصر، باعتباره موقعًا صحفيًا مستقلًا، قد تعرض للحجب منذ عام 2017، دون أن يصدر عن السلطات أي قرار رسمي أو توضيح بشأن أسباب هذا الحجب.
يعتمد التقرير على مصادر متعددة، بينها تقارير فنية وتحقيقات دولية، للكشف عن استخدام تقنيات حجب متقدمة، مثل deep packet inspection، التي تسمح بتعطيل مواقع إلكترونية محددة أو فئات من المحتوى الرقمي، دون الحاجة لقرارات قضائية ظاهرة أو إشعارات رسمية.
ما تبرزه التغطية هنا ليس فقط الجانب التقني، بل أيضًا ما يُمكن تسميته بـ "غياب المساءلة المؤسسية"، حيث يتم تطبيق سياسات تمس الحقوق الأساسية للمواطنين، مثل حرية الوصول للمعلومات، دون أن تمر عبر قنوات ديمقراطية واضحة.
كما توظف مدى مصر هذا التقرير لإلقاء الضوء على قضية أوسع، وهي الرقابة الرقمية في مصر، باعتبارها جزءًا من بيئة قانونية وسياسية تحدّ من حرية الصحافة والنشر، حتى عندما يكون المحتوى قانونيًا ولا يتضمن مخالفات واضحة.
وتأتي اللغة المستخدمة في التقرير ذات طابع تحليلي-استقصائي، مع توظيف خطاب حقوقي وتقني، يعكس توجهًا واضحًا نحو:
من خلال تحليل هذه التغطيات، تظهر عدة رسائل متكررة في خطاب الإعلام المستقل:
يستخدم الإعلام المستقل أساليب وخصائص لغوية مميزة، منها:
تكشف التغطية المستقلة عن زاوية مختلفة جذريًا في معالجة قضية الحجب، حيث يُنظر إليها كقضية حرية، وليست فقط مسألة تنظيم إداري. كما توفّر تغطية معمقة وموثقة، تسهم في طرح أسئلة نقدية حول مشروعية الحجب وأثره طويل المدى على الإعلام في مصر.
خامسًا: تحليل مقارن بين الإعلام الرسمي والمستقل
رغم أن الإعلام الرسمي والمستقل في مصر يتناولان موضوع حجب المواقع الإلكترونية من زوايا مختلفة، إلا أن هناك بعض نقاط الاتفاق التي يمكن ملاحظتها:
لكن ما عدا ذلك، تبرز فجوة واضحة في التناول والمعالجة بين الإعلام الرسمي والمستقل لقضية حجب المواقع في مصر. ويُلاحظ أن زاوية التناول تختلف جذريًا؛ فالإعلام الرسمي يقدّم القضية من منظور تنظيمي وإداري، ويُركّز على كون الحجب إجراءً يندرج ضمن سياسات الدولة لتنظيم المجال الإعلامي. في المقابل، يتعامل الإعلام المستقل مع الحجب باعتباره قضية حقوقية وسياسية في المقام الأول، تمسّ جوهر حرية التعبير وتفتح الباب أمام تقييد المجال العام.
أما على مستوى الرسائل الأساسية، فيميل الإعلام الرسمي إلى التأكيد على حماية الأمن القومي، ومكافحة الشائعات، وضبط الأداء الإعلامي كأهداف مشروعة للحجب. في حين يركّز الإعلام المستقل على الرسائل المضادة، حيث يقدّم الحجب كأداة تُستخدم لانتهاك حرية التعبير، وتقييد الصحافة المستقلة، وسط غياب واضح للشفافية في الإجراءات.
تتجلى هذه التباينات أيضًا في اللغة المستخدمة؛ فبينما يستخدم الإعلام الرسمي لغة مؤسسية مبرّرة تتسم بالهدوء والحياد الظاهري، يعتمد الإعلام المستقل على لغة نقدية وتحليلية تُعبّر عن موقف ناقد للسلطة، وتُظهر اهتمامًا بمساءلة الجهات المسؤولة عن قرارات الحجب، خاصة في ظل غياب التوضيح الرسمي أو الإعلان القضائي.
وتنعكس هذه الفروقات في نوعية المصادر المعتمدة؛ إذ يميل الإعلام الرسمي إلى الاعتماد الحصري على المصادر الحكومية أو التصريحات الرسمية، دون إتاحة المجال لآراء معارضة أو تحليلات مستقلة. أما الإعلام المستقل، فيستند إلى مزيج من المصادر التقنية والحقوقية، بما في ذلك تقارير دولية، تصريحات صحفيين، وتحليلات منظمات مجتمع مدني.
وأخيرًا، يختلف تصوير فعل الحجب ذاته؛ فبينما يراه الإعلام الرسمي إجراءً قانونيًا مشروعًا ضمن صلاحيات الدولة، يصوره الإعلام المستقل كأداة رقابية تُستخدم بشكل غير معلن وغير خاضع للمساءلة، ما يثير الشكوك حول مشروعيته وتأثيره على التعددية الإعلامية.
تؤثر التغطية الإعلامية الرسمية والمستقلة لقضية حجب المواقع بشكل واضح على طريقة تلقّي الجمهور للمعلومات، وتشكّل مواقف متباينة حيال القضية، تبعًا للزاوية التي يتبناها كل طرف.
ففي حالة الإعلام الرسمي، تُسهم التغطية في تعزيز تصوّر إيجابي للحجب باعتباره إجراءً تنظيميًا يهدف إلى حماية المجتمع من الفوضى، ومنع المحتوى غير المنضبط، سواء كان ذلك في صورة معلومات مضللة، منصات غير مرخصة، أو ممارسات تهدد "النظام العام". وتُقدَّم قرارات الحجب في هذا السياق بوصفها إجراءات عقلانية ومسؤولة، مدعومة بتصريحات رسمية، دون إثارة جدل أو تساؤلات حول آثارها الحقوقية. وهو ما قد يؤدي إلى قبول غير نقدي لدى قطاعات من الجمهور، خصوصًا أولئك الذين يربطون أمن واستقرار الدولة بصرامة التنظيم الإعلامي.
على الجانب الآخر، تؤدي تغطية الإعلام المستقل دورًا مغايرًا، حيث تُعزّز لدى الجمهور درجة أعلى من الوعي النقدي تجاه السياسات الحكومية المتعلقة بالمجال الرقمي. فبالاعتماد على لغة تحليلية وحقوقية، تعمل هذه التغطية على فتح نقاشات أوسع حول شرعية الحجب، وحدوده القانونية، وتأثيره على حرية الصحافة وتعددية الآراء. كما تتيح الروايات البديلة، التي لا تظهر غالبًا في الإعلام الرسمي، فرصة للجمهور لفهم خلفيات القرارات، وربطها بسياقات سياسية أوسع، مثل الرقابة أو تقييد الحريات.
ومن ثم، فإن تأثير الإعلام الرسمي يتجّه نحو التهدئة والتبرير، بينما يُسهم الإعلام المستقل في طرح التساؤل والمساءلة. وهكذا، يُنتج كل نوع من الإعلام أنماطًا مختلفة من التفاعل الجماهيري مع القضية: من القبول الصامت، إلى النقد والمطالبة بالشفافية.
تكشف الفروق بين تغطية الإعلام الرسمي والمستقل لقضية حجب المواقع عن توجهات سياسية واجتماعية مختلفة بعمق، تتجاوز مجرد اختلاف في الأسلوب التحريري أو اختيار العناوين. فالإعلام الرسمي يعكس بوضوح منظور الدولة في إدارة المجال العام، ويستند إلى خطاب يربط الاستقرار الوطني بضرورة التنظيم والسيطرة، ويُقدِّم الحجب كأداة لحماية المصلحة العامة من الفوضى أو التهديدات "غير المرئية" التي قد تنشأ من المحتوى الرقمي غير المنضبط. هذا التوجه يرتبط بأولويات سياسية تضع الأمن والنظام في مرتبة أعلى من حرية التعبير، خاصة في سياق سياسي يعاني من تحديات داخلية وخارجية، ويتسم بتضييق مستمر على الفضاء العام.
أما الإعلام المستقل، فيمثّل خطابًا بديلًا يعكس رؤية حقوقية واجتماعية أوسع، ترى أن حرية الوصول إلى المعلومات وتعدد الأصوات الإعلامية هي أساس الديمقراطية وركيزة ضرورية لأي إصلاح سياسي حقيقي. وتُظهِر التغطية المستقلة أن قضية الحجب ليست مجرد مسألة فنية أو إجرائية، بل قضية مرتبطة بشكل مباشر بموازين القوة بين الدولة والمجتمع، وبمساحة التعبير المتاحة للفاعلين غير الرسميين.
من الناحية الاجتماعية، يعكس الإعلام الرسمي توجهًا نحو ترسيخ الانضباط والطاعة وثقة الجمهور في الدولة، بينما يعبّر الإعلام المستقل عن فئات من الجمهور تسعى إلى مساءلة السلطة، والمطالبة بالشفافية، والتمسّك بالحقوق المدنية. وهذا التباين يُنتج بدوره تصوّرات مختلفة عن دور الإعلام نفسه: هل هو أداة توجيهية للحفاظ على "الاستقرار"؟ أم مساحة مفتوحة للنقاش والتعددية والرقابة المجتمعية؟
بالتالي، فإن التغطية الإعلامية ليست مجرد انعكاس للأحداث، بل هي أداة لصياغة الواقع السياسي والاجتماعي، ويُشكّل تحليلها مدخلًا مهمًا لفهم خريطة القوة والاتصال بين الدولة والمجتمع في مصر.
تكشف تغطية الإعلام الرسمي والمستقل لقضية حجب المواقع في مصر عن تصوّرين متباينين لآثار هذه السياسات على المجتمع والسياسة. فمن منظور الإعلام الرسمي، يبدو أن الآثار الاجتماعية والسياسية للحجب تكاد تكون غير مُعترف بها أو تُقدّم في صورة نتائج إيجابية، مثل ضبط الأداء الإعلامي، حماية القيم المجتمعية، أو مكافحة الشائعات. الحجب في هذا الخطاب يُقدَّم كإجراء تنظيمي لا يُخلّ بالحقوق، بل يحمي المواطنين من مخاطر رقمية غامضة أو "غير مرئية".
أما في تغطية الإعلام المستقل، فتظهر الآثار بشكل أكثر وضوحًا وتفصيلًا، حيث يُنظر إلى الحجب باعتباره جزءًا من سياق أوسع لتقليص المساحة العامة، وتقييد حرية الوصول إلى المعلومات، وإضعاف الإعلام المستقل الذي يقدّم روايات بديلة. ومن الزاوية السياسية، ترتبط هذه السياسات بمناخ عام من الرقابة وتآكل الثقة بين الدولة والمواطن، بينما تتّسع الفجوة بين الخطاب الرسمي وما يختبره المواطنون فعليًا في الفضاء الرقمي.
اجتماعيًا، يتسبب الحجب في تقليص فرص التعدد والتنوع في الآراء، ويدفع شرائح من الجمهور إلى اللجوء إلى أدوات بديلة (مثل الشبكات الخاصة VPN أو المصادر الأجنبية)، ما يهدّد بخلق انقسامات معرفية بين جمهور "رسمي" وجمهور "بديل". كما يؤثر هذا الوضع على البيئة المهنية والأوضاع الاقتصادية للصحفيين.
بناءً على ما سبق، تقدم هذه الورقة عدة توصيات لدعم بيئة إعلامية أكثر انفتاحًا وشفافية:
تكشف هذه الورقة، من خلال تحليل التغطية الإعلامية الرسمية والمستقلة لقضية حجب المواقع في مصر، عن انقسام واضح في الخطاب الإعلامي حول هذه السياسات. ففي حين يُقدّم الإعلام الرسمي الحجب كإجراء تنظيمي ضروري لحماية الأمن القومي وضبط المجال الرقمي، يُبرز الإعلام المستقل هذه الإجراءات باعتبارها انتهاكًا لحرية التعبير، وجزءًا من سياق أوسع لتقييد المجال العام وتقليص التعددية الإعلامية.
أظهرت المقارنة أن الإعلام الرسمي يميل إلى تبنّي خطاب تبريري مدعوم بمفردات قانونية ومؤسسية، مع غياب شبه تام للزوايا الحقوقية أو النقدية. في المقابل، يستخدم الإعلام المستقل خطابًا ناقدًا وتحليليًا يستند إلى معايير الشفافية والمساءلة، ويُسلّط الضوء على الأثر السلبي للحجب على الصحافة الحرة والوصول إلى المعلومات.
كما أوضحت الورقة أن هذه التغطية لا تعكس فقط اختلافًا في أسلوب المعالجة، بل تجسّد توجهات سياسية واجتماعية متباينة: أحدها يركّز على الانضباط والحماية من "الفوضى"، والآخر يطالب بضمان الحقوق الأساسية وتوسيع الهامش الديمقراطي. ونتيجة لهذا التباين، تتشكل تصورات مختلفة لدى الجمهور، تتراوح بين القبول الكامل بسياسات الحجب بوصفها إجراءات تنظيمية، والرفض النقدي لها باعتبارها تجاوزًا للحقوق الدستورية.
وتشير نتائج التحليل إلى أن الصحافة المستقلة تلعب دورًا حيويًا في كشف آثار هذه السياسات وتوثيق التجاوزات المرتبطة بها، مما يجعلها في مواجهة مباشرة مع أدوات الرقابة والضغط. ومن هنا، تدعو الورقة بوضوح إلى مراجعة شاملة للسياسات والقوانين المقيدة للحريات الرقمية، وضمان التزام الدولة بالمعايير الدولية التي تكفل حرية التعبير، وتحمي التعددية الإعلامية باعتبارها أساسًا لأي نظام يحترم حقوق الإنسان.
في ضوء ما سبق، تؤكد هذه الورقة أن حرية التعبير والوصول إلى المعلومات هي حقوق أساسية لا يمكن التضحية بها تحت ذريعة التنظيم أو حماية الأمن، خاصة حين تُمارَس سياسات الحجب دون شفافية أو رقابة قضائية مستقلة. إن اتساع نطاق الحجب، وغياب معايير واضحة ومعلنة لتطبيقه، يعكسان نمطًا من التحكم في المجال العام يتعارض مع مبادئ الدولة الديمقراطية والمجتمع التعددي.
إن تعزيز الحريات الصحفية وضمان بيئة رقمية منفتحة وشفافة ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان مجتمع قادر على النقد، والمساءلة، والمشاركة الواعية في الشأن العام.
المركز الاقليمى للحقوق و الحريات هى مؤسسة قانونية مصرية تأسست وفقا للاحكام القانون فى يناير 2016 على يد مجموعة من نشطاء حقوق الانسان الشباب حيث تضم مجموعة من المحامين و الباحثين و يعملون من اجل الدفاع عن حقوق الانسان فى مصر و الاقليم و الذين يتخذون من مبادئ حقوق الانسان مرجعا و من العمل السلمى منهجا لضمان حرية الفرد و كرامته . يسعى المركز للوصول إلى مجتمع منفتح وعادل يتيح حرية البحث عن المعلومات وخلق الأفكار وتلقيها والتعبير عنها وتبادلها مع الآخرين دون خوف أو تدخل ظالم من الدولة وذلك بتمكين أفراد المجتمع ومساعدتهم في الحصول على حقوقهم والتمتع بحرياتهم بتمثيل احتياجاتهم أمام الجهات المسؤولة والتأكيد على ضرورة الالتزام بحقوق الانسان وسيادة القانون.
روابط سريعة
ابق على اطلاع!