الإعلام الرقمي وتضليل المعلومات في مصر: تحديات ما بعد الحقيقة

تاريخ النشر:
الصيغة:
عدد الصفحات:
الوصف:
يونيو 19, 2025
PDF
١٠

أولًا: الملخص التنفيذي

تشهد البيئة الإعلامية في مصر، كما في كثير من دول العالم، تصاعدًا لظاهرة تضليل المعلومات عبر المنصات الرقمية، حيث تتداخل الخوارزميات، والفاعلون السياسيون، والصحافة غير المهنية، في إنتاج وتضخيم سرديات زائفة تؤثر على الرأي العام وتُضعف مناعة المجتمع المعرفية. وفي ظل تقلّص المساحة النقدية للإعلام التقليدي، باتت المنصات الرقمية هي الساحة الأوسع لتداول المعلومات، بما تحمله من فرص وتحديات.

وتواجه مصر نمطًا متصاعدًا من "إعلام ما بعد الحقيقة"، الذي لا تُقاس فيه صدقية الخبر بمدى صحته، بل بمدى تماشيه مع الأهواء والمواقف المسبقة. وتُغذّي هذه الظاهرة بيئة تقنية واقتصادية غير شفافة، إضافة إلى ضعف الوعي الإعلامي لدى الجمهور، وغياب مؤسسات تحقق قوية، فضلًا عن قيود مفروضة على الصحافة المستقلة.

أهداف الورقة:

تهدف هذه الورقة إلى ما يلي:

  1. تحليل واقع التضليل المعلوماتي في الإعلام الرقمي المصري، من خلال دراسة المفهوم واتجاهاته، واستعراض حالات بارزة سواء في السياق السياسي أو الصحي أو الاجتماعي.
  2. تحديد التحديات البنيوية والمؤسسية التي تسهم في تفشي الظاهرة، بما في ذلك ضعف التشريعات، وغياب مراكز التحقق، وتحكم الخوارزميات، وتراجع الثقة في الإعلام.
  3. اقتراح توصيات عملية لصنّاع القرار على مستويات متعددة (السياسات العامة، المؤسسات الإعلامية، المجتمع المدني)، من أجل بناء بيئة معلوماتية أكثر نزاهة وتوازنًا، قادرة على مواجهة التضليل دون المساس بحرية التعبير.

تشدد الورقة في نهايتها على أهمية صياغة مقاربة تشاركية تضم الدولة، والمجتمع المدني، وقطاع الإعلام الرقمي، لضمان بيئة معلوماتية تسهم في بناء وعي مجتمعي نقدي، ومجال عام مفتوح، قائم على الحق في المعرفة والحقيقة.

ثانيًا: المقدمة

عصر ما بعد الحقيقة (Post-truth) هو مفهوم يشير إلى حالة تصبح فيها المشاعر الشخصية والمعتقدات أكثر تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من الحقائق الموضوعية.

ظهر المصطلح بشكل لافت في الخطاب السياسي والإعلامي خلال العقد الأخير، خاصة مع تصاعد الأخبار الكاذبة (Fake News) وانتشار المعلومات المضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في هذا العصر، الحقائق لم تعد هي المرجع الأساسي للنقاش العام، بل يتم تجاهلها أو تحريفها لصالح ما يوافق قناعات الأفراد أو يخدم مصالح سياسية أو أيديولوجية.

وقد اختارت Oxford Dictionary كلمة Post-truth كـ"كلمة العام" في 2016، في سياق أحداث مثل استفتاء بريكست وانتخاب دونالد ترامب، حيث برز الاستخدام المكثف لهذا النمط في الخطاب السياسي.

في العقدين الأخيرين، تحوّل الإعلام الرقمي من مجرد وسيط مكمل إلى فاعل مركزي في تشكيل الرأي العام وإعادة صياغة التصورات الاجتماعية والسياسية. وبفضل انتشاره الواسع وسرعة تدفقه، أصبح هذا الإعلام يلعب دورًا محوريًا في توجيه الوعي الجمعي، وصناعة السرديات، وإعادة تعريف الحقيقة ذاتها في المجال العام. لم تعد وسائل الإعلام التقليدية وحدها مسؤولة عن إنتاج المعرفة، بل أصبح المستخدمون أنفسهم جزءًا من هذه المعادلة، يستهلكون ويشاركون ويصنعون المحتوى في آنٍ واحد.

في السياق المصري، يبرز هذا التحول بوضوح. فقد أدى الانتشار الواسع للهواتف الذكية، وتراجع الثقة في الإعلام الرسمي، إلى اعتماد شريحة كبيرة من المواطنين على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كمصادر رئيسية للأخبار والمعلومات. وتشير بيانات موثقة إلى أن أكثر من 70% من المصريين يستخدمون الإنترنت، وأن المنصات مثل "فيسبوك" و"يوتيوب" و"تيك توك" تمثل مصادر إخبارية يومية لملايين المستخدمين، لا سيما بين فئة الشباب.

لكن هذا التحول الرقمي، على أهميته، جاء مصحوبًا بمخاطر جديدة. إذ تزايدت ظاهرة التضليل المعلوماتي والمحتوى الزائف، سواء من خلال منصات غير مهنية أو عبر حملات منظمة تستهدف تشكيل الرأي العام بطريقة موجهة. وفي غياب ضوابط فعالة ومؤسسات تحقق قوية، بات من السهل ترويج الأخبار الكاذبة، التي غالبًا ما تتغلغل في النقاش العام وتؤثر في القضايا الحساسة مثل الصحة والاقتصاد والسياسة.

من هنا، تأتي أهمية هذه الورقة لفهم التحديات والفرص التي يطرحها الإعلام الرقمي في مصر، واستكشاف السبل الممكنة لمواجهـة ظاهرة التضليل دون التضحية بحق المواطنين في الوصول إلى المعرفة وحرية التعبير.

ثالثًا: مفاهيم أساسية

  • التضليل المعلوماتي (Disinformation) مقابل المعلومات الخاطئة (Misinformation)

المعلومات الخاطئة (Misinformation) هي معلومات غير دقيقة أو مضللة يتم تداولها دون وجود نية مسبقة للخداع. وغالبًا ما تنتشر بسبب الجهل أو سوء الفهم أو الثقة الزائدة في مصادر غير موثوقة. الأشخاص الذين يشاركون هذا النوع من المعلومات يعتقدون عادةً أنها صحيحة، وقد يكون هدفهم النصح أو التوعية، لكنهم يساهمون دون قصد في نشر معلومات غير صحيحة تؤثر على الرأي العام. مثال على ذلك هو تداول نصائح طبية غير مثبتة على وسائل التواصل الاجتماعي، يظن الناس أنها مفيدة لكنها في الواقع مغلوطة.

أما التضليل المعلوماتي (Disinformation)، فهو عملية نشر معلومات كاذبة أو مختلقة عن عمد، بهدف خداع الآخرين أو التلاعب بمواقفهم وسلوكهم. يُستخدم هذا النوع من المعلومات بشكل استراتيجي، خاصة في سياقات سياسية أو إعلامية، لتحقيق أهداف معينة مثل تشويه صورة طرف معين، أو زرع الشك في الحقائق المثبتة. من أمثلة ذلك قيام جهات أو أفراد بنشر أخبار مزيفة عن خصم سياسي لإضعافه وكسب دعم الرأي العام لصالحهم.

باختصار، يكمن الفرق الأساسي بين المفهومين في النية: فالمعلومات الخاطئة تنتشر دون قصد، بينما التضليل المعلوماتي يتم بنية مسبقة للخداع والتأثير. ورغم أن كلاهما يشكل تهديدًا للمعرفة العامة والنقاش الديمقراطي، فإن التضليل يُعتبر الأخطر بسبب طبيعته المتعمدة والمنظمة.

  • إعلام ما بعد الحقيقة

إعلام ما بعد الحقيقة هو نمط من الخطاب الإعلامي يتسم بتهميش الحقائق الموضوعية لصالح المشاعر، والانطباعات الشخصية، والمعتقدات الأيديولوجية، بحيث تصبح الحقيقة أقل أهمية من ما يُراد تصديقه.

في هذا النوع من الإعلام، يتم التركيز على الإثارة، والعناوين العاطفية، والقصص الجاذبة بدلًا من التحقيق الصحفي الدقيق، ما يسهم في تشكيل واقع مشوّه لدى الجمهور. وغالبًا ما يُستخدم هذا الأسلوب في السياقات السياسية، حيث تُبنى السرديات الإعلامية على تضخيم المخاوف أو تقديم روايات انتقائية لتأكيد موقف معين، حتى لو كان ذلك على حساب الدقة أو المصداقية.

ينتشر إعلام ما بعد الحقيقة بشكل خاص في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يسهل تداول المعلومات الكاذبة أو المنحازة، ويتراجع دور التحقق والتدقيق. وتُسهم خوارزميات هذه المنصات في تعزيز هذا النمط، لأنها تميل إلى إظهار المحتوى الذي يثير التفاعل، وليس بالضرورة المحتوى الصحيح.

يعكس إعلام ما بعد الحقيقة تحولًا خطيرًا في وظيفة الإعلام من نقل الحقائق إلى صناعة قناعات، مما يهدد الوعي الجمعي ويقوّض الثقة في المؤسسات والمصادر الصحفية.

  • الخوارزميات و"فقاعات المعلومات"

الخوارزميات وفقاعات المعلومات هما من أبرز الظواهر المرتبطة بإعلام ما بعد الحقيقة، ولهما تأثير عميق على طريقة تشكيل الوعي العام وتوزيع المعرفة.

الخوارزميات:

هي أنظمة حسابية تستخدمها منصات مثل فيسبوك، يوتيوب، وتويتر لتنظيم وترتيب المحتوى الذي يظهر للمستخدمين. تعتمد هذه الخوارزميات على تتبع تفضيلات الأشخاص وسلوكهم الرقمي (ما يشاهدونه، يتفاعلون معه، أو يشاركونه) لتقديم محتوى "شخصي" يزيد من تفاعلهم مع المنصة.

لكن هذا التخصيص لا يُراعي الحقيقة أو التنوع في الآراء، بل يُفضل المحتوى الذي يُثير الانفعال والتفاعل، مثل الأخبار الصادمة، أو القصص التي تُؤكد ما يصدقه المستخدم مسبقًا، حتى لو كانت مضللة أو كاذبة.

فقاعات المعلومات (Filter Bubbles):

هي النتيجة الطبيعية للخوارزميات، وتُشير إلى الحالة التي يُحاط فيها الفرد بمحتوى يُعزز معتقداته الحالية فقط، دون تعريضه لوجهات نظر مخالفة أو معلومات متنوعة. يعيش المستخدم داخل "فقاعة رقمية" منسجمة مع آرائه، ما يؤدي إلى تقوية الانحيازات، وتقليل القدرة على التفكير النقدي، ورفض أي سردية مغايرة.

في هذه البيئة، تصبح الحقيقة نسبية، ويُعاد تشكيل الواقع بناءً على ما تقرره الخوارزميات، لا ما تعكسه الوقائع. وتُصبح المجتمعات أكثر انقسامًا وتطرفًا لأن كل مجموعة تعيش في فقاعة معلوماتية خاصة بها، ترى فيها "حقيقتها" وحده.

تخلق الخوارزميات فقاعات معلومات تعزل الأفراد عن التعددية، وتُسهم في نشر المعلومات الكاذبة وتعزيز إعلام ما بعد الحقيقة، مما يُشكل خطرًا على الحوار المجتمعي والديمقراطية.

رابعًا: دور الذكاء الاصطناعي والمنصات الرقمية في إعادة إنتاج السرديات الزائفة

يلعب الذكاء الاصطناعي والمنصات الرقمية دورًا متزايد الخطورة في إعادة إنتاج السرديات الزائفة، خاصة في ظل عصر ما بعد الحقيقة، حيث تُهمَّش الوقائع لصالح العاطفة والدعاية.

1. إنتاج وتضخيم المحتوى المضلل:

الذكاء الاصطناعي يمكنه توليد نصوص، صور، مقاطع صوتية وفيديوهات يصعب تمييزها عن الحقيقة، مثل "الفيديوهات المزيفة العميقة" (deepfakes) أو المقالات المفبركة. هذه الأدوات تُستخدم لخلق سرديات مزيفة تُظهر شخصيات عامة تقول أو تفعل أشياء لم تحدث قط، مما يسهل تزييف التاريخ أو تشويه السمعة أو تضليل الرأي العام.

2. الخوارزميات والترويج الآلي:

المنصات الرقمية تُفعِّل خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحديد المحتوى "الأكثر تفاعلاً"، لا "الأكثر دقة". ونتيجة لذلك، تُعزِّز هذه الخوارزميات انتشار المحتوى العاطفي أو المستفز الذي غالبًا ما يكون مضللًا أو زائفًا، وبالتالي يعيد إنتاجه على نطاق واسع. كلما تكررت الرواية الزائفة، زادت احتمالية تصديقها – وهي آلية تُعرف بـ"أثر التكرار".

3. الجيوش الإلكترونية والروبوتات (bots):

يُستخدم الذكاء الاصطناعي في إدارة حسابات وهمية على منصات التواصل، تُعرف بالـ "بوتات"، تنشر وتعيد تغريد السرديات الكاذبة بشكل منسق. هذه الروبوتات تُصنَع لتبدو حقيقية، وتُسهم في خلق وهم بأن هناك دعمًا شعبيًا واسعًا لقضية أو فكرة معينة، رغم أن هذا الدعم وهمي.

4. التخصيص المفرط للمحتوى:

الذكاء الاصطناعي يتعلّم من تفاعلات المستخدم ويُغذيه بالمحتوى المتوافق مع معتقداته وتوجهاته، ما يؤدي إلى ترسيخ الفقاعات المعلوماتية، ويُبعد المستخدم أكثر فأكثر عن وجهات النظر الأخرى أو الحقائق التي قد تُزعزع قناعاته.

يُعيد الذكاء الاصطناعي والمنصات الرقمية إنتاج السرديات الزائفة عبر صناعة محتوى مقنع لكنه مزيف، والترويج له بآليات خفية، وتضييق أفق التلقي الفردي. وهذه العوامل تُسهم في تشويه إدراك الحقيقة، وزيادة الاستقطاب، وزعزعة الثقة في المؤسسات والمصادر الإعلامية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى تقنين استخدام هذه التقنيات، وتعزيز التربية الإعلامية والرقمية، لمواجهة هذا الانزلاق نحو التلاعب المنهجي بالعقول.

خامسًا: المشهد الإعلامي الرقمي في مصر

  • تحليل للواقع الحالي:
    • أبرز المنصات الرقمية المستخدمة في مصر

تُعد فيسبوك المنصة الرقمية الأكثر استخدامًا في مصر، حيث يستخدمها أكثر من 80% من مستخدمي الإنترنت، وهو ما يعادل نحو 49.6 مليون مستخدم حتى عام 2025. ما تزال فيسبوك تحظى بمكانة مركزية في الحياة الرقمية للمصريين، سواء في التواصل الشخصي أو متابعة الأخبار أو التسويق.

منصة يوتيوب تحتل المرتبة الثانية من حيث الانتشار، ويستخدمها ما يقرب من 77% من السكان يوميًا لمشاهدة المحتوى الترفيهي، التعليمي، والديني. وقد أصبحت الوجهة الأساسية للمصريين لمتابعة الفيديوهات الطويلة والمقاطع الموسيقية والمحتوى المؤثر.

أما إنستجرام، فقد شهد نموًا ملحوظًا، ويستخدمه حاليًا نحو 68–70% من مستخدمي الإنترنت في مصر، ما يعادل حوالي 20 مليون مستخدم. يُقبل عليه الشباب بشكل خاص، نظرًا لتركيزه على الصور والفيديوهات القصيرة.

منصة تيك‑توك تشهد انتشارًا واسعًا وسريعًا، خاصة بين الفئات العمرية الشابة، وتُقدّر نسبة استخدامها بحوالي 60–61% من مستخدمي الإنترنت، أي ما يعادل أكثر من 40 مليون مستخدم. وقد أصبحت المنصة أحد أهم مصادر المحتوى الترفيهي القصير في مصر.

أما تطبيقات المراسلة، فهي تشكّل جزءًا لا يتجزأ من الحياة الرقمية اليومية. يُستخدم واتساب وفيسبوك ماسنجر من قبل أكثر من 70% من المصريين، بينما يشهد تيليجرام تصاعدًا في الاستخدام بنسبة تقترب من 59%، خاصة في متابعة القنوات الإخبارية والملفات التوثيقية.

منصتا تويتر (X) ولينكدإن تستخدمان بدرجة أقل نسبيًا، حيث يُقدّر عدد مستخدمي تويتر بنحو 5–6 ملايين، بينما يتركز استخدام لينكدإن في الأوساط المهنية والوظيفية بنسبة تقدر بحوالي 21%.

أما المنصات الأقل شيوعًا مثل سناب شات وبنترست، فتستخدم بنسب تتراوح بين 23–41%، وتنتشر أساسًا بين الفئات المهتمة بالمحتوى البصري، الموضة، والمجتمع الشبابي.

باختصار، تُظهر خريطة المنصات الرقمية في مصر هيمنة المنصات الكبرى مثل فيسبوك، يوتيوب، وإنستجرام، إلى جانب صعود تيك‑توك وتزايد الاعتماد على تطبيقات المراسلة، مما يعكس تحولًا في سلوك المستخدم المصري نحو المحتوى المرئي والفوري.

  • حجم وتأثير الإعلام الرقمي مقارنة بالإعلام التقليدي

شهد المشهد الإعلامي في مصر تحولًا جذريًا خلال العقد الأخير، نتيجة التوسع في استخدام الإنترنت وانتشار الهواتف الذكية، ما أدّى إلى صعود لافت للإعلام الرقمي مقابل تراجع تدريجي في تأثير الإعلام التقليدي مثل الصحف المطبوعة، القنوات التلفزيونية، والإذاعة. هذا التحوّل لم يقتصر على عدد المستخدمين فقط، بل شمل أيضًا طبيعة التأثير، وأنماط الاستهلاك، ومستوى التفاعل مع المحتوى.

الإعلام الرقمي أصبح اليوم المصدر الأساسي للمعلومات والترفيه لدى قطاعات واسعة من المصريين، خاصة فئة الشباب (18–35 سنة). وفقًا لتقرير "We Are Social – Digital 2024"، يستخدم أكثر من 79 مليون مصري الإنترنت، ويقضي المستخدمون في المتوسط نحو 7 ساعات يوميًا متصلين بالشبكة، منها ما يزيد على 3 ساعات على وسائل التواصل الاجتماعي. وتشير الأرقام إلى أن أكثر من 50 مليون مستخدم في مصر نشطون على هذه المنصات، في مقدمتها فيسبوك، يوتيوب، تيك‑توك، وإنستجرام، التي أصبحت تشكل البيئة الرئيسية لاستهلاك الأخبار، ومتابعة الأحداث، والتعبير عن الرأي.

ما يميز الإعلام الرقمي هو قدرته الفائقة على الوصول السريع والتفاعل الفوري. فبخلاف الإعلام التقليدي الذي يعمل غالبًا في اتجاه واحد ويخضع لتحكم مؤسسي صارم، تتيح المنصات الرقمية لكل فرد أن يصبح ناشرًا أو صانع محتوى، وأن يتفاعل مع الجمهور مباشرة من خلال التعليقات، الإعجابات، والمشاركة. كما تستفيد هذه المنصات من خوارزميات متطورة تُمكّنها من استهداف المحتوى بحسب اهتمامات كل مستخدم، مما يزيد من فرص التأثير والانتشار.

في المقابل، لا يزال الإعلام التقليدي يحتفظ بجزء من جمهوره، خاصة بين الفئات الأكبر سنًا، أو في المناطق الريفية التي قد يكون الوصول فيها إلى الإنترنت محدودًا. كما تلعب القنوات الرسمية دورًا بارزًا في نقل خطاب الدولة، وتثبيت السرديات السياسية، خاصة في أوقات الأزمات أو الأحداث الوطنية. إلا أن التفاعل الجماهيري، والانخراط اليومي مع هذا النوع من الإعلام، قد تراجع بوضوح مقارنة بما كان عليه الحال قبل عقد أو اثنين.

إضافة إلى ذلك، ساهم الإعلام الرقمي في إعادة تشكيل المجال العام في مصر. فقد أصبح وسيلة لتنظيم الحملات الشعبية، ونشر القصص الإنسانية، وكشف بعض الانتهاكات بالصوت والصورة، إلى جانب فتح المساحة لخطابات وسرديات بديلة، لا تجد لها مكانًا في الإعلام الرسمي. لكن في المقابل، فتح هذا الانفتاح المجال أيضًا لانتشار المعلومات المضللة، والخطاب المتطرف، والأخبار الكاذبة، مما يفرض تحديات جديدة تتعلق بالتحقق، والتربية الإعلامية، وتنظيم الخوارزميات.

  • دراسة حالة للتضليل في الإعلام الرقمي: التضليل الإعلامي في تغطية جائحة كوفيد-19

في سياق جائحة كوفيد-19 التي اجتاحت العالم منذ مطلع عام 2020، لعبت وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل الوعي الجماهيري، سواء من خلال نشر المعلومات العلمية الدقيقة أو عبر ترويج روايات مضللة. في مصر، شكّلت تغطية بعض الصحف الرسمية للجائحة مثالًا واضحًا على انتشار المعلومات المضللة، ومن أبرز هذه الحالات ما نشرته صحيفة "الأخبار" المصرية في يناير 2020.

ففي 23 يناير 2020، نشرت "الأخبار"، وهي صحيفة قومية، تقريرًا ادّعى أن فيروس كورونا قد يكون سلاحًا بيولوجيًا أمريكيًا. استند التقرير إلى تصريحات من شخص يُدعى "إيغور نيكولين"، وُصف بأنه عضو سابق في لجنة الأسلحة البيولوجية التابعة للأمم المتحدة. في تصريحاته، زعم نيكولين أن الولايات المتحدة كانت تجري تجارب على أسلحة بيولوجية ضد أعراق مختلفة، وأن فيروس كورونا هو نتاج أحد هذه التجارب التي خرجت عن السيطرة. وقد نُشر هذا الادعاء من دون أي تدقيق في خلفية المصدر أو التحقق من دقته.

اللافت في هذه الرواية أنها لم تكن مصرية المنشأ، بل ظهرت في البداية على منصات إعلامية روسية مثل "روسيا اليوم" (RT) و"سبوتنيك" الناطقتين بالعربية، واللتين تُعرفان بتبني خطاب إعلامي موالٍ للكرملين. وبعد نشر هذه المزاعم في الإعلام الروسي، انتقلت بسرعة إلى وسائل إعلام في الشرق الأوسط، من بينها صحيفة "الأخبار" المصرية. وقد صنّفت "فرقة العمل الخاصة بالاتصالات الاستراتيجية" التابعة للاتحاد الأوروبي (East StratCom Task Force) هذا التقرير على أنه جزء من حملة تضليل إعلامي مرتبطة بروسيا تستهدف تشويه سمعة الولايات المتحدة خلال الجائحة.

اعتماد صحيفة مصرية رسمية على رواية مصدرها جهات غير موثوقة ومن دون تحقق يعكس خللًا مهنيًا كبيرًا في ممارسات التحرير والنشر. كما أنه يمثل حالة نموذجية لكيفية انتشار السرديات الزائفة عبر قنوات إعلامية محلية.  وقد أسهم هذا النوع من التغطية في ترسيخ نظريات المؤامرة لدى قطاعات من الجمهور، مما أضعف الثقة في المصادر الطبية والعلمية الرسمية، وأربك الرسائل الصحية الحيوية في بداية الأزمة.

من جهة أخرى، فإن تكرار نشر مثل هذه الروايات في وسائل إعلام مختلفة داخل مصر، من دون تقديم تفنيد علمي أو تغطية موازية، يعزز من انتشار التضليل في البيئة الرقمية ويدعم ما يعرف بـ"الواقع البديل"، حيث تصبح المعلومة الزائفة متداولة كحقيقة لمجرد تكرارها وانتشارها الواسع.

تعكس هذه الحالة أهمية تبني المؤسسات الإعلامية لسياسات واضحة للتحقق من المعلومات، لا سيما أثناء الأزمات الكبرى. كما تبرز الحاجة إلى إنشاء وحدات مستقلة لمكافحة المعلومات المضللة داخل غرف الأخبار، وتدريب الصحفيين على أدوات التحقق الرقمي. وفي ظل الانتشار المتزايد للمنصات الرقمية وتأثيرها المتعاظم، يصبح من الضروري بناء وعي مجتمعي قادر على التمييز بين المعلومات الموثوقة والروايات الزائفة، خصوصًا في المسائل المتعلقة بالصحة العامة والسلامة.

  • تأثير الأخبار الزائفة على القضايا العامة

للأخبار الزائفة تأثير بالغ الخطورة على القضايا العامة، إذ تتسلل إلى الرأي العام لتشكله أو تحرفه عن مساره استنادًا إلى معلومات غير صحيحة، أو مغلوطة عمدًا. وتزداد خطورة هذا التأثير عندما يتعلق بمجالات حيوية تمس حياة الناس بشكل مباشر مثل الانتخابات، والصحة العامة، والاقتصاد، والتعليم. فيما يلي عرض لأهم هذه التأثيرات حسب القطاع:

 1. الانتخابات والديمقراطية

في السياقات السياسية، تُستخدم الأخبار الزائفة بشكل منظم لتشويه سمعة الخصوم، وبث الشك في نزاهة الانتخابات، أو تضليل الناخبين بشأن مواقف أو برامج المرشحين. يؤدي ذلك إلى إضعاف المشاركة السياسية، وخلق حالة استقطاب حاد، وزعزعة الثقة في المؤسسات الديمقراطية. في حالات كثيرة، تم استخدام الحملات التضليلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لاستهداف فئات بعينها برسائل مغلوطة أو موجهة، كما حدث في الانتخابات الأمريكية عام 2016 أو خلال استفتاء بريكست في بريطانيا.

 2. الصحة العامة

تُعد الأخبار الزائفة حول الصحة من أخطر أشكال التضليل، إذ قد تؤدي إلى قرارات شخصية تضر بالأفراد والمجتمع، كما حدث خلال جائحة كوفيد-19. انتشرت شائعات عن "علاجات وهمية"، أو أن اللقاحات تحتوي على شرائح تعقب، أو تسبب العقم. مثل هذه الأكاذيب أدت إلى تردد البعض في تلقي اللقاح، وتأخر السيطرة على الجائحة في عدة بلدان. كما يشيع نشر معلومات خاطئة عن أمراض مثل السرطان أو السكري، ما يعيق الوقاية والتشخيص المبكر والعلاج الصحيح.

 3. الاقتصاد والأسواق

في الاقتصاد، يمكن للأخبار الزائفة أن تتسبب في تقلبات غير مبررة في الأسواق المالية، أو بث الذعر بين المستثمرين، أو خلق أزمات ثقة تؤدي إلى سحب الاستثمارات. على سبيل المثال، قد تؤدي شائعة عن إفلاس بنك ما إلى تهافت العملاء على سحب ودائعهم، مما يسرّع من انهيار البنك حتى إن كانت الشائعة كاذبة. كما يمكن استخدام الأخبار الزائفة لتضليل المستهلكين بشأن جودة المنتجات أو الأمن الغذائي، ما يؤثر على سلوكهم الشرائي.

 4. التعليم والمعرفة العامة

انتشار المعلومات الخاطئة في المحتوى التعليمي أو الثقافي عبر الإنترنت يؤثر على جودة المعرفة العامة، ويساهم في تكوين فهم مغلوط للتاريخ، أو العلم، أو الدين. تكرار الأكاذيب على المدى الطويل قد يرسّخ قناعات يصعب تغييرها، ويُضعف قدرة الأفراد على التفكير النقدي، خاصة في غياب مهارات التحقق من المصادر.

سادسًا: التحديات الرئيسية

  1. غياب التشريعات الشفافة:
    • قوانين فضفاضة تسمح بالملاحقة تحت بند "نشر أخبار كاذبة" دون تعريف دقيق

يمثل غياب تشريعات واضحة وشفافة أحد أبرز التحديات في مواجهة التضليل المعلوماتي في مصر. فعلى الرغم من وجود قوانين تجرّم "نشر الأخبار الكاذبة"، مثل المواد ١٨٨ و٨٠ د و١٠٢ مكرر من قانون العقوبات، إلا أن هذه النصوص غالبًا ما تكون فضفاضة وغير دقيقة، ما يجعلها قابلة للتأويل والتوظيف السياسي أو الأمني.

في كثير من الحالات، يتم توجيه اتهامات بالنشر الكاذب إلى صحفيين أو نشطاء أو حتى مواطنين عاديين، دون تحديد واضح لمعايير "الكذب" أو مرجعية التحقق من المعلومة. ولا يُشترط في معظم هذه القوانين وجود نية التضليل أو إثبات الضرر الناتج عن النشر، مما يُنتج بيئة قانونية غير آمنة للصحافة الاستقصائية أو حرية التعبير.

غياب آليات واضحة للتمييز بين المعلومة الخاطئة غير المقصودة (misinformation) والمعلومات المضللة المتعمدة (disinformation) يعقّد الأمور أكثر، إذ يمكن أن تُستخدم القوانين لمعاقبة الرأي أو الخطأ البشري، بدلًا من استهداف حملات التضليل المنظمة والممنهجة التي تهدد المجال العام.

هذا الإطار التشريعي غير الدقيق يضعف من جهود مكافحة الأخبار الزائفة الحقيقية، ويقلل من ثقة المواطنين في العدالة، ويدفع بعض المؤسسات الإعلامية نحو الرقابة الذاتية خوفًا من العقوبات، وهو ما ينعكس على جودة التغطية الصحفية وحرية تداول المعلومات.

  1. ضعف التحقق المؤسسي:
    • غياب مراكز مستقلة للتحقق من المعلومات

يُعد غياب أو ضعف آليات التحقق المؤسسي أحد أبرز العقبات في مواجهة سيل المعلومات الزائفة في مصر. فحتى اليوم، تفتقر المؤسسات الإعلامية الكبرى إلى وحدات داخلية مستقلة للتحقق من المعلومات، سواء في الصحافة الورقية أو القنوات الفضائية أو حتى المنصات الرقمية.

لا توجد مراكز وطنية أو مستقلة ذات مصداقية واسعة تُعنى حصريًا بالتحقق من الأخبار المتداولة على نطاق عام، كما هو الحال في بعض الدول التي تعتمد على كيانات مثل “Full Fact” في بريطانيا أو “Africa Check” في دول إفريقية أخرى. ونتيجة لذلك، تصبح مهمة التحقق من صحة الأخبار فردية أو عشوائية، وتعتمد على اجتهاد الصحفيين أو المستخدمين، ما يفتح الباب أمام انتشار الروايات الكاذبة دون تصحيح سريع أو فعال.

الأكثر من ذلك، أن بعض المؤسسات الإعلامية قد تعيد نشر محتوى زائف من دون تحقق، خصوصًا في ظل سباق التفاعل والسبق الصحفي على المنصات الاجتماعية. وفي غياب ثقافة التحقق المؤسسي، تُقدَّم أحيانًا المعلومات من مصادر غير موثوقة أو مجهولة على أنها "حقائق"، ما يُفقد الإعلام مصداقيته ويشوّه الوعي العام.

  1. التحكم الخوارزمي:
    • تأثير خوارزميات المنصات في تعزيز السرديات المضللة.

في عصر الإعلام الرقمي، لا تُحدد المحتوى الأكثر انتشارًا من خلال قيمته الإخبارية أو دقته، بل من خلال خوارزميات المنصات الرقمية التي تتحكم في ما يراه المستخدمون، وكيفية عرضه، وتكرار ظهوره. هذه الخوارزميات، المصممة في الأساس لزيادة التفاعل، تميل إلى تفضيل المحتوى الصادم أو المثير للجدل، بغض النظر عن صحته، وهو ما يجعل الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة أكثر قابلية للانتشار مقارنة بالمحتوى المهني والمتزن.

في هذا السياق، تتحول المنصات مثل فيسبوك، تيك توك، ويوتيوب إلى بيئة خصبة لانتشار السرديات الزائفة، خاصة تلك التي تثير مشاعر الخوف أو الغضب أو الفضول. ومع الوقت، يُحاصر المستخدم داخل ما يُعرف بـ"فقاعة المعلومات" (Information Bubble)، حيث تُعاد تغذيته بنفس النوع من المحتوى الذي تفاعل معه سابقًا، مما يُكرس الانحياز ويُضعف التفكير النقدي.

هذا التحكم الخوارزمي غير الشفاف يخلق خللًا في موازين المعرفة العامة، ويتيح المجال أمام جماعات تضليل منظمة لاستغلال المنصات في نشر روايات معينة، سواء كانت سياسية أو صحية أو اجتماعية.

  1. انخفاض الوعي الإعلامي لدى الجمهور

يُعد ضعف الوعي الإعلامي لدى قطاع واسع من الجمهور أحد أكثر التحديات خطورة في مواجهة المعلومات الزائفة. فالكثير من المستخدمين لا يمتلكون الأدوات اللازمة لتمييز المصادر الموثوقة من غير الموثوقة، أو لفهم الفرق بين الخبر، والرأي، والدعاية. هذا الانخفاض في المهارات الإعلامية والمعلوماتية يجعل الجمهور أكثر عرضة للتأثر بالسرديات الكاذبة، خاصة عندما تكون مصاغة بشكل جذاب أو عاطفي أو منسوبة لجهات تبدو موثوقة ظاهريًا.

في السياق المصري، تسهم عدة عوامل في ترسيخ هذا التحدي، منها ضعف المحتوى التعليمي في المدارس والجامعات المتعلق بمهارات التفكير النقدي والتحقق من المعلومات، وغياب حملات توعية واسعة حول مخاطر التضليل الإعلامي. كما أن الاعتماد المتزايد على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار، دون تدريب المستخدمين على كيفية التعامل النقدي معها، يعمّق من الفجوة بين الحقيقة وما يُتداول على المنصات. 

  1. الضغوط على الصحافة المستقلة وتراجع المساحة النقدية

تعاني الصحافة المستقلة في مصر من ضغوط متصاعدة تحد من قدرتها على أداء دورها في كشف الحقائق ومساءلة السلطة. فخلال السنوات الأخيرة، شهدت البلاد تضييقًا ملحوظًا على المؤسسات الإعلامية المستقلة من خلال الملاحقات القانونية، والحجب، وتقييد التراخيص، إلى جانب المضايقات الأمنية والرقابة المباشرة وغير المباشرة.

أدى ذلك إلى تراجع المساحة النقدية المتاحة في المجال العام، حيث أصبحت وسائل الإعلام المستقلة تعمل في بيئة غير آمنة، تهيمن عليها الاعتبارات السياسية والأمنية. وكنتيجة، يضطر العديد من الصحفيين إلى ممارسة الرقابة الذاتية تفاديًا للملاحقة أو العقوبات، بينما تم إغلاق أو تجميد عمل عدد من المنصات التي كانت تمثل صوتًا مستقلًا، 

هذا التراجع في حرية الصحافة يؤدي بدوره إلى إضعاف آليات تصحيح المعلومات المضللة في المجال العام، إذ تصبح رواية الدولة أو المؤسسات المسيطرة هي الوحيدة المتاحة، دون وجود منافذ حقيقية للتحقق، أو تقديم روايات بديلة مدعومة بالأدلة.

في ظل هذه الضغوط، تصبح مواجهة التضليل الإعلامي أكثر صعوبة، إذ لا يمكن التصدي للمعلومات الزائفة دون وجود إعلام حر ومستقل قادر على العمل بحرية، والنقد، والتحقيق، وكشف الحقائق مهما كانت حساسة.

سابعًا: التوصيات المقترحة

على مستوى السياسات العامة:

لمواجهة التضليل المعلوماتي وتعزيز البيئة الإعلامية في مصر، ينبغي تبني حزمة من السياسات العامة التي توازن بين حماية المجال العام وحرية التعبير من جهة، وضمان تداول معلومات دقيقة ومسؤولة من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يمكن طرح التوصيات التالية:

  1. إصلاح التشريعات الإعلامية: يجب إعادة النظر في القوانين المتعلقة بـ"نشر الأخبار الكاذبة" لضمان وضوح المصطلحات، ومنع استخدامها كأداة لتقييد حرية التعبير أو ملاحقة الصحفيين. ينبغي أيضًا صياغة تعريفات دقيقة للمعلومات المضللة والمعلومات الخاطئة، وتحديد معايير موضوعية للمساءلة.
  2. ضمان استقلال المؤسسات الإعلامية: من الضروري توفير بيئة تنظيمية تسمح بوجود إعلام مستقل وتعددي. يشمل ذلك حماية الصحفيين والمؤسسات من التهديدات والملاحقة بسبب أداء عملهم المهني.
  3. تعزيز الحق في الوصول إلى المعلومات: من خلال إقرار قانون حرية تداول المعلومات الذي طال انتظاره، وتمكين المواطنين من الوصول إلى البيانات الرسمية الدقيقة، مما يضعف فرص انتشار الشائعات ويعزز الشفافية.

على مستوى الإعلام:

لمعالجة تحديات عصر "ما بعد الحقيقة" وتعزيز مقاومة التضليل المعلوماتي، يجب على المؤسسات الإعلامية في مصر أن تتبنى سياسات عملية ومهنية واضحة. وفي هذا الإطار، تشمل التوصيات التالية:

  1. إنشاء وحدات تحقق داخل المؤسسات الإعلامية: ينبغي على كل وسيلة إعلامية أن تُنشئ وحدة مستقلة للتحقق من المعلومات (Fact-checking desk)، مدعومة بكوادر مدربة وأدوات رقمية، لضمان دقة الأخبار قبل نشرها، ولتصحيح المعلومات المغلوطة عند الضرورة.
  2. تعزيز معايير المهنية والشفافية: يتطلب الأمر التزامًا صارمًا بمواثيق الشرف الصحفي، واعتماد ممارسات تحريرية تميّز بوضوح بين الخبر، والرأي، والتحليل، والدعاية. كما يجب الإشارة دائمًا إلى مصادر المعلومات بوضوح، وتوضيح درجة موثوقيتها.
  3. إعادة بناء الثقة مع الجمهور: عبر تقديم تغطيات موضوعية، والاعتراف بالأخطاء عند حدوثها، ونشر تصحيحات علنية بطريقة واضحة. الشفافية في التغطية تعزز من مصداقية الوسيلة الإعلامية وتحميها من الوقوع في فخ التلاعب أو الدعاية.
  4. الاستثمار في تدريب الصحفيين: ينبغي أن يشمل التدريب المهني المهارات الرقمية الجديدة، مثل تتبع المصادر، والتحقق من الصور ومقاطع الفيديو، وتحليل بيانات التواصل الاجتماعي، إلى جانب مهارات التفكير النقدي والتحقق من الادعاءات العلمية أو السياسية.
  5. فتح المجال أمام الأصوات المستقلة والتعددية: يتطلب تطوير إعلام مهني مقاوم للتضليل أن يُفسح المجال لآراء متعددة، ويُوفر تغطيات معمقة للقضايا الاجتماعية والاقتصادية، بعيدًا عن المركزية المفرطة أو الرقابة الصارمة التي تضعف جودة المحتوى.
  6. التعاون بين المؤسسات الإعلامية: من خلال منصات مشتركة للتحقق من الأخبار، أو تبادل التدريب والخبرات، أو إصدار بيانات جماعية لمكافحة حملات التضليل الواسعة والمنظمة، خصوصًا في أوقات الأزمات أو الانتخابات.

على مستوى المجتمع المدني:

يلعب المجتمع المدني دورًا محوريًا في تعزيز المناعة الاجتماعية ضد التضليل الإعلامي، من خلال التثقيف، والرقابة، وبناء قدرات الأفراد على التفكير النقدي. وفي هذا السياق، يمكن تقديم التوصيات التالية:

  1. إطلاق حملات توعية رقمية وميدانية: ينبغي أن تنفذ منظمات المجتمع المدني حملات مستمرة تهدف إلى رفع الوعي بالمعلومات الزائفة، وطرق التحقق منها، وخطورة تداولها، خاصة في أوقات الأزمات الصحية أو السياسية أو الاقتصادية، مع التركيز على الفئات الأكثر عرضة للتضليل كالشباب وكبار السن.

  2. مراقبة الأداء الإعلامي والمنصات الرقمية: يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تؤسس آليات لرصد ومتابعة المحتوى الإعلامي وتحليل مدى التزامه بالمعايير المهنية، وتقديم تقارير علنية أو شكاوى رسمية في حال تم رصد حالات تضليل متعمد.
  3. الضغط من أجل شفافية المنصات التقنية: عبر حملات مناصرة تدعو شركات التكنولوجيا لتوضيح آليات عمل خوارزمياتها، والسماح بقدر أكبر من الرقابة المدنية على المحتوى المتداول، خاصة في سياق الانتخابات أو الحملات الحكومية.

ثامنًا: خاتمة

في عصر تتزايد فيه التحديات المعرفية وتتشظى فيه الحقائق بين الضجيج الرقمي، تبرز الحاجة الملحة إلى مواجهة ظاهرة التضليل المعلوماتي دون أن يتحول ذلك إلى ذريعة لقمع حرية التعبير. إن الحفاظ على هذا التوازن الحساس يتطلب وعيًا سياسيًا وأخلاقيًا عميقًا بأن حرية التعبير ليست عائقًا أمام مكافحة المعلومات الزائفة، بل شرطًا أساسيًا لبناء مناعة معرفية حقيقية في المجتمع.

ولأن التضليل ليس ظاهرة تقنية فقط، بل اجتماعية وثقافية وسياسية أيضًا، فإن معالجته لا يمكن أن تتم عبر طرف واحد أو أدوات رقابية معزولة. بل يتطلب الأمر مقاربة تشاركية شاملة تضم الدولة بوصفها جهة تنظيمية ومسؤولة عن تشريعات عادلة، والمجتمع المدني بما يملكه من أدوات للتوعية والمساءلة، والإعلام الرقمي بما له من دور محوري في تشكيل السرديات وتوجيه الرأي العام.

إن إعادة بناء الثقة في المجال العام تبدأ من إرساء بيئة إعلامية حرة ومهنية، وتعليمية ناقدة، ومنصات تقنية شفافة، وجمهور واعٍ. ومن هنا، فإن الطريق نحو مواجهة "ما بعد الحقيقة" لا يمر فقط عبر محاربة الأكاذيب، بل أيضًا عبر تمكين الحقيقة لتكون مرئية، ومسموعة، ومحمية.

المصادر

Top Social Media Networks Websites in Egypt Ranking Analysis for May 2025

Digital 2025: Egypt

Egypt’s Digital Landscape

Facebook leads social media platforms in Egypt, followed by Instagram and TikTok

Social media: A double-edged sword

Digital 2024: Egypt

The State of Social Media in Egypt

Social media trends in Egypt in 2025

Misinfo, Disinfo, and Fake News in Egypt’s COVID-19 “Infodemic”

الاصدار التالي
هذا أخر اصدار

المركز الاقليمي للحقوق والحريات

المركز الاقليمى للحقوق و الحريات هى مؤسسة قانونية مصرية تأسست وفقا للاحكام القانون فى يناير 2016 على يد مجموعة من نشطاء حقوق الانسان الشباب حيث تضم مجموعة من المحامين و الباحثين و يعملون من اجل الدفاع عن حقوق الانسان فى مصر و الاقليم و الذين يتخذون من مبادئ حقوق الانسان مرجعا و من العمل السلمى منهجا لضمان حرية الفرد و كرامته . يسعى المركز للوصول إلى مجتمع منفتح وعادل يتيح حرية البحث عن المعلومات وخلق الأفكار وتلقيها والتعبير عنها وتبادلها مع الآخرين دون خوف أو تدخل ظالم من الدولة وذلك بتمكين أفراد المجتمع ومساعدتهم في الحصول على حقوقهم والتمتع بحرياتهم بتمثيل احتياجاتهم أمام الجهات المسؤولة والتأكيد على ضرورة الالتزام بحقوق الانسان وسيادة القانون.

تابعنا على الفيسبوك

روابط سريعة

  • من نحن
  • الوظائف
  • النشرات
  • المدونة
  • التقارير
  • الأوراق البحثية
  • البرامج

ابق على اطلاع!

© جميع الحقوق محفوظة . المركز الاقليمي للحقوق والحريات