مقدمة
شهدت مصر تحولات جذرية في المشهد الإعلامي خلال العقدين الماضيين، حيث انتقلت من هيمنة الصحافة التقليدية (المطبوعة والمرئية) إلى صعود وسائل التواصل الاجتماعي كقوة إعلامية مؤثرة. وقد جاء هذا التحول في ظل تغيرات سياسية واجتماعية وتكنولوجية. هذه التحولات، التي انتقلت بالجمهور من الاعتماد شبه الكلي على الصحافة التقليدية المطبوعة والمرئية إلى فضاء رقمي مفتوح، ألقت بظلالها على طبيعة إنتاج المحتوى الإعلامي، واستهلاكه، وتأثيره على الرأي العام. ومع ذلك، لم تكن هذه التحولات بمعزل عن سياق الرقابة المفروضة، والتي أثرت بشكل كبير على مسار تطور الإعلام الرقمي وحرية التعبير في مصر.
وتتناول هذه الورقة طبيعة هذا التحول، العوامل المؤثرة فيه، وتداعياته على حرية التعبير والممارسة الصحفية في مصر.
كانت الصحف المطبوعة والقنوات التلفزيونية لها دورًا مركزيًا في تشكيل الرأي العام المصري طوال القرن العشرين، فكانت الصحف مثل الأهرام والأخبار والجمهورية، مصدراً رئيسياً للمعلومات، بينما سيطر التلفزيون الرسمي، مثل الفضائية المصرية على البث المرئي. ومع ذلك، بدأ تراجع الصحافة التقليدية بسبب انخفاض معدلات توزيع الصحف مع صعود البدائل الرقمية، وفرض الدولة سيطرة مشددة على المحتوى، خاصة بعد 2013، مما قلص مساحة الحرية.
فقد عانت الصحافة التقليدية من ضعف الاستقلال المالي وتراجع الثقة الجماهيرية، إضافةً إلى تداخل المصالح السياسية والإعلانية في توجيه أجنداتها التحريرية.
كما تحول المستهلكون إلى المنصات الرقمية للحصول على أخبار أسرع وأكثر تنوعاً. فقد ساعدت سهولة النشر وسرعة الوصول إلى الجماهير على بروز "صحافة المواطن"، حيث صار الأفراد ينشرون بأنفسهم محتوى إخبارياً وصوراً وفيديوهات لحظية.
وقد أدى هذا التراجع إلى تحوّل المؤسسات الصحفية التقليدية إلى ما يشبه منصات مفرغة من وظيفتها الرقابية، إذ بات كثير منها يعتمد على إعادة نشر بيانات رسمية دون تحقيق أو تحليل معمق. وبدلاً من أن تكون الصحافة "سلطة رابعة" تراقب أداء السلطات وتطرح قضايا المجتمع، أصبحت في كثير من الأحيان أداة لتبرير السياسات الحكومية أو توجيه الرأي العام ضمن أطر محددة مسبقًا. هذا التحول أضعف دور الصحافة المهنية، وقلّص من قدرتها على المنافسة في بيئة إعلامية باتت تموج بتدفقات رقمية سريعة ومتنوعة.
وفي المقابل، لم تتمكّن العديد من الصحف من مواكبة التحول الرقمي على نحو فعال، حيث تأخرت في تطوير نسخ إلكترونية جذابة، أو أخفقت في تقديم محتوى بصيغ متعددة (نص، فيديو، إنفوجرافيك) يناسب تطلعات جمهور الإنترنت. كما أن غياب سياسات استثمار واضحة في تدريب الصحفيين على الأدوات الرقمية الحديثة، وصعوبة التكيف مع نماذج التمويل الجديدة، جعل كثيرًا من الصحف عرضة للإغلاق أو التحول إلى منصات هامشية. وقد شهد العقد الأخير تقليصًا واسعًا في أعداد العاملين بالمؤسسات الصحفية القومية، في ظل عجز مالي مزمن وتراجع الإقبال الجماهيري.
رغم انفتاح المجال الرقمي، سنت السلطات في مصر عدة قوانين للسيطرة على الفضاء الإلكتروني، من أبرزها:
فمثلاً، وضع قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 عقوبات على تهم تحوي ألفاظا فضفاضة قابلة للتؤيل مثل "الاعتداء على قيم الأسرة المصرية"، و"نشر أخبار كاذبة".
وأصدرت العديد من منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية مثل "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش" تقارير تحليلية حول تأثير هذا القانون على حرية التعبير في مصر.
حيث إن هذه القوانين وسعت من سلطة الدولة على المحتوى الرقمي وأتاحت حجب المواقع الإلكترونية وفرض عقوبات على "مروجي الأخبار الكاذبة".
وأشارت تقارير مراسلون بلا حدود (2024)، إلى أن مصر تراجعت في مؤشر حرية الصحافة إلى المرتبة 166 من أصل 180 دولة، بسبب القيود المتزايدة.
لم تقتصر الرقابة على المجال الرقمي فحسب، بل امتدت بشكل متصاعد إلى وسائل الإعلام التقليدية، حيث تُمارس أشكال غير مباشرة من الضبط، مثل تعيين رؤساء تحرير موالين، أو التدخل في السياسات التحريرية عبر تعليمات شفهية وأوامر غير مكتوبة. وقد تراجعت جرأة التغطيات الإخبارية، وتلاشت مساحات النقد في البرامج الحوارية، ما أدى إلى تنميط الخطاب الإعلامي العام. كما أصبح بعض الإعلاميين يواجهون ضغوطًا تؤدي إلى الإيقاف أو الاستبعاد من الشاشات إذا تجاوزوا حدود المسموح به سياسيًا.
في هذا السياق، شهدت البيئة الإعلامية حالة من "الرقابة الذاتية" التي أصبحت متجذرة داخل غرف التحرير، حيث يلجأ الصحفيون والمحررون إلى تجنّب التطرق لموضوعات حساسة كليًا خوفًا من العقاب أو الحجب أو الفصل. وقد أدى هذا المناخ إلى تآكل المهنية، وتفضيل السلامة على المصداقية، وغياب التنوع في زوايا التناول. كما ساهم في تقليص عدد المنصات الإعلامية المستقلة التي يمكنها تقديم محتوى نقدي أو استقصائي، ما جعل الجمهور يبحث عن مصادر خارجية أو بديلة في سبيل الحصول على سرديات مغايرة للواقع المصري.
أصبحت منصات مثل فيسبوك وتويتر وتيك توك مصادر أساسية للأخبار، خاصة بين الشباب، يمتلك مصر نحو 50.7 مليون مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي، مما يجعلها سوقاً إعلامياً حيوياً.
وقد أدّى هذا الانتشار الواسع إلى تغيّر جوهري في طبيعة العلاقة بين المواطن والمعلومة؛ فلم يعد الجمهور متلقيًا سلبيًا، بل أصبح مشاركًا في إنتاج وتداول المحتوى. فخلال الأحداث العاجلة أو الأزمات السياسية، غالبًا ما تسبق المنشورات الشخصية والمنصات غير الرسمية التغطية الإعلامية التقليدية. كما أتاحت المنصات الرقمية هامشًا أكبر للتعبير عن الرأي، خاصة في ظل تراجع الصحافة المستقلة، مما جعل بعض المستخدمين يتحولون إلى مؤثرين أو صانعي رأي عام خارج الأطر المؤسساتية.
ومع ذلك، لم يكن هذا الفضاء الرقمي بمنأى عن التحديات. فقد ساهمت خوارزميات العرض في تعزيز الاستقطاب، من خلال تفضيل المحتوى العاطفي أو المثير للجدل، مما أنتج ما يُعرف بـ"فقاعات الرأي". كما أن ضعف مهارات التحقق الرقمي لدى المستخدمين سهّل انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة. وبالإضافة إلى ذلك، فرضت السلطات رقابة متزايدة على هذه المنصات، تمثلت في حذف منشورات، أو توقيف حسابات، أو ملاحقة أصحاب المحتوى قانونيًا، ما دفع بعض النشطاء إلى اللجوء إلى تطبيقات أكثر أمانًا مثل تيليغرام أو Signal.
تتيح الشبكات الاجتماعية نشر المعلومات دون وسطاء، مما يتجاوز الرقابة الرسمية جزئياً، وتسمح بتشارك المحتوى والتعليق عليه، خلافًا للإعلام التقليدي أحادي الاتجاه، كما أن نشر الأخبار العاجلة والأحداث السياسية في الوقت الفعلي، كما حدث في ثورة 2011.
وقد لعب العامل الاقتصادي دورًا مهمًا أيضًا في تعزيز هذا الانتقال، حيث أصبح الوصول إلى الأخبار عبر الإنترنت مجانيًا أو شبه مجاني، مقارنةً بتكاليف الاشتراك في الصحف الورقية أو مشاهدة القنوات المدفوعة. كما أن الهواتف الذكية المنتشرة على نطاق واسع، حتى في المناطق الريفية، سهّلت الوصول المستمر للمعلومات والتفاعل اللحظي مع المحتوى. وبذلك، ساهمت التكنولوجيا في تقليص الفجوة الجغرافية والمعرفية بين المركز والأطراف، ومنحت الأفراد أدوات لم يكن يمتلكها سوى الصحفيون سابقًا.
إضافة إلى ذلك، فإن التنوع الكبير في المنصات الرقمية يتيح للمستخدم اختيار المصدر الذي يتوافق مع توجهاته السياسية أو الاجتماعية، ما يعزّز شعوره بالتمثيل والمشاركة. فقد أصبح من الممكن متابعة قنوات مستقلة، أو صفحات متخصصة، أو حتى أفراد ينقلون الحدث من موقعه. هذا التخصيص في المحتوى، والقدرة على التفاعل معه والتعليق عليه، منح المستخدمين إحساسًا بالتمكين والحرية، مما جعل العودة إلى الإعلام التقليدي تبدو، بالنسبة للكثيرين، خطوة إلى الوراء.
لكن هذه المنصات واجهت تحديات، أبرزها:
أدى هذا إلى تقلص مساحة النقاش العام، وهجرة بعض النشطاء إلى منصات أقل رقابة مثل تليجرام، وتأثير سلبي على التنوع الإعلامي، حيث شُنت حملة رقابية موسعة، شملت تتبع المحتوى وتوقيف المستخدمين، ما خلق بيئة رقمية يتسم فيها النشر بالحذر أو التوجس. وقد دفعت هذه الضغوط كثيرًا من النشطاء إلى الانسحاب من المجال العام أو اللجوء إلى قنوات بديلة يصعب مراقبتها، مثل التطبيقات المشفّرة أو المنصات الأجنبية. وبهذا، أصبح المشهد الإعلامي الرقمي في مصر خليطًا معقدًا من الإمكانات والقيود، يعكس في طياته صراعًا بين الرغبة في التعبير وخشية العقاب.
الخاتمة والتوصيات
تحول المشهد الإعلامي المصري من احتكار الصحافة التقليدية إلى تعددية رقمية، بينما وفرت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة للنقاش، فإن التحديات المتعلقة بالرقابة والمصداقية تبقى عوائق أمام الإعلام الحر، ويظل التحدي الأكبر هو إيجاد توازن بين حرية التعبير وحق الدولة في حماية أمنها القومي، دون أن يكون ذلك على حساب تقييد الحريات الأساسية.
يظل السؤال مطروحاً: كيف يمكن للصحافة التقليدية أن تتكيف وتستمر في هذا المشهد المتغير، وهل ستتمكن من استعادة ثقة الجمهور في ظل المنافسة الشديدة من المصادر الرقمية؟
التوصيات
1. مراجعة القوانين الإعلامية مثل قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية وقانون تنظيم الصحافة، لضمان توازن بين مكافحة التضليل الإعلامي وضمان حرية التعبير، مع إشراك نقابات الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني في صياغتها.
2. تخفيف القيود على الترخيص الإعلامي لتعزيز التعددية، خاصة فيما يتعلق بمنصات الإعلام الرقمي المستقل، مع وضع ضوابط شفافة لمنع انتشار الأخبار الكاذبة.
3. إطلاق مبادرات حوارية بين الحكومة والإعلاميين والنشطاء الرقميين لبناء سياسات إعلامية أكثر شمولية.
4. دعم استقلالية المؤسسات الإعلامية المستقلة مادياً وتشريعياً، لتظل قادرة على أداء دورها الرقابي والمهني بعيداً عن التأثيرات السياسية والاقتصادية.
5. اعتماد نموذج يجمع بين المصداقية الصحفية التقليدية ومرونة المنصات الرقمية، مثل إنشاء وحدات إخبارية متخصصة في التحقق من المعلومات.
6. تعزيز الشفافية عبر نشر سياسات التحرير ومصادر التمويل لاستعادة ثقة الجمهور، خاصة في ظل انتشار الشائعات.
7. تدريب الصحفيين على أدوات الصحافة الاستقصائية الرقمية وأخلاقيات التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي.
8. زيادة الوعي الرقمي عبر حملات تثقيفية حول كيفية تحليل المصادر وتمييز الأخبار الموثوقة من المضللة، بالتعاون مع المؤسسات التعليمية.
9. تشجيع المحتوى النقدي البناء الذي يساهم في النقاش العام دون انتهاك القوانين أو الترويج للخطاب المتحيز.
10. إجراء مزيد من الدراسات حول تأثير الخوارزميات على تشكيل الرأي العام المصري، ودور المنصات الناشئة (مثل تيك توك وتليجرام) في تحويل المشهد الإعلامي.
11. توثيق حالات الرقابة الإلكترونية وتحليلها مقارنةً بسياقات إقليمية أخرى، باستخدام منهجيات كمية ونوعية.
12. دعم منصات إعلامية مستقلة غير ربحية تعتمد على نماذج تمويل مستدامة (كالاشتراكات أو التبرعات) لتجنب تأثير المعلنين أو الضغوط السياسية.
13. الضغط من أجل معايير عالمية تحمي الخصوصية الرقمية وتحد من التعسف في حجب المحتوى، مع احترام السيادة الوطنية والقوانين المنظمة.
المصادر
المركز الاقليمى للحقوق و الحريات هى مؤسسة قانونية مصرية تأسست وفقا للاحكام القانون فى يناير 2016 على يد مجموعة من نشطاء حقوق الانسان الشباب حيث تضم مجموعة من المحامين و الباحثين و يعملون من اجل الدفاع عن حقوق الانسان فى مصر و الاقليم و الذين يتخذون من مبادئ حقوق الانسان مرجعا و من العمل السلمى منهجا لضمان حرية الفرد و كرامته . يسعى المركز للوصول إلى مجتمع منفتح وعادل يتيح حرية البحث عن المعلومات وخلق الأفكار وتلقيها والتعبير عنها وتبادلها مع الآخرين دون خوف أو تدخل ظالم من الدولة وذلك بتمكين أفراد المجتمع ومساعدتهم في الحصول على حقوقهم والتمتع بحرياتهم بتمثيل احتياجاتهم أمام الجهات المسؤولة والتأكيد على ضرورة الالتزام بحقوق الانسان وسيادة القانون.
روابط سريعة
ابق على اطلاع!